بروفيسور حسام حايك
باحث في مجال الهندسة الكمياوية.
يعتبر السرطان أحد أكثر الأمراض خطورة في الوقت الحاضر، فهو يتسبب بوفاة 7.6 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم كل عام. وهو يصيب عدة مواقع مختلفة من الجسد، فيظهر،على سبيل المثال، على الجلد، وفي الكبد والدم.
يبدأ السرطان إذا تشكّلت خلايا جديدة لا حاجة لها، ولا تموت الخلايا القديمة عندما يجب أن تموت. خلايا السرطان الباقية تتضاعف بمعدل سريع وقد تغير هيئتها من خلال التحول. تستطيع خلايا السرطان أن تشكّل أوراما في الأجهزة التي نشأت منها، أو أن تسافر إلى مواقع بعيدة في الجسد لكي تتسبب بأورام خبيثة بحيث تتلف أجهزة الجسم وأعضاءه وتتسبب أخيرا بالموت. في أفضل الحالات، يُكتشَف السرطان عندما يبدأ فقط، أي عندما يكون عدد خلايا السرطان في الجسم محدودا ويكون الورم ما يزال صغيرا. وعادة ما تكون علاجات السرطان ناجحة في مرحلة مبكرة ويكون لدى المريض فرصة جيدة لاستعادة صحته بشكل كامل. مع ذلك، فإن الشخص الذي يُصاب بالسرطان لا يعاني من أية أعراض ولا حتى من ألم أو تعب غير محدديْن، وعادة ما لا يعرف أنه مريض. الطريقة الوحيدة لاكتشاف السرطان في وقت مبكر تتم بالذهاب إلى الطبيب بشكل منتظَم عندما نكون أصحّاء ويجري فحصنا – وهذا ما يُطلق عليه فحصا لاكتشاف أعراض المرض في وقت مبكر screening. لسوء الحظ, الإختبارات الطبية هذه الأيام ليست سريعة ومريحة ودقيقة بشكل كاف لكل شخص يجري فحصه على أساس منتظَم.
نحن، في التخنيون، نطوّر حاليا اختبارا بالتنفّس سهلا وفعّالا من حيث التكلفة. الاختبار بالتنفّس لن يكون مزعجا إطلاقا للجسم ولن يتطلب إجراءات غير مريحة أو خطيرة لأخذ عينات على غرار أخذ عينات من الدم أو الأنسجة. في المستقبل القريب، من المرجح أن يجد المرضى جهازا جديدا بحجم جهاز كمبيوتر محمول في عيادتهم المحلية. هنا يثبّت طبيب العائلة أنبوبا بلاستيكيا بالجهاز، ويطلب منهم أن يأخذوا نفسا عميقا ويزفرون ببطء في الأنبوب. وبعد بضع دقائق سوف يظهر تقرير صحي على شاشة جهاز الكمبيوتر يقوم فقط على أساس تحليل نفَس المرضى. ويمكن أن يحذر التقرير شخصا بأن سرطانا ينمو لديه محددا بالضبط أين وفي أية مرحلة – كل ذلك قبل أن يشهد أية أعراض بفترة طويلة.
كيف يعمل هذا النظام إذن؟ يقوم فحص التنفّس للكشف عن السرطان على اكتشاف مجموعة معينة من الجزيئات الصغيرة المتطايرة في التنفّس لأنها تتلاشى بسهولة. حيث يتكوّن الزفير بشكل رئيسي من النيتروجين، والأكسجين وثاني أكسيد الكربون وبخار الماء. وعلاوة على ذلك، يزفر كل شخص آلافا من الجزيئات الصغيرة المتطايرة. ولعل التركيبة الدقيقة للجزيئات المتطايرة في التنفّس تختلف من شخص لآخر وتحتوي على كثير من المعلومات عن الفرد: على سبيل المثال، هناك فروق بين الرجال والنساء، بين أناس يمارسون الرياضة كثيرا وأولئك الذين لا يمارسونها، وبين أناس صغار وكبار. فتركيبة الجزيئات الصغيرة المتطايرة تتأثر أيضا بما نأكل، وما إذا كنا ندخّن، ونشرب الكحول، ونأخذ أدوية، وكذلك ما إذا كان لدينا سرطان أو أي مرض آخر. فجزيئات السرطان الخاصة المتطايرة تتحرر من أغشية الخلايا السرطانية في جسم المريض. وجميع الخلايا، سواء كانت صحية أو سرطانية، تنبعث باستمرار مثل الجزيئات في الدم، حيث تبعث خلايا مختلفة أنواعا مختلفة و/أو كميات من الجزيئات. تنتقل هذه الجزيئات مع الدم إلى الحويصلات الهوائية للرئة ومن هناك يتم زفرها. لذلك ليس للسرطان رائحة فحسب، بل تمتلك السرطانات المختلفة، على الأقل من الناحية النظرية، روائح مختلفة. على سبيل المثال، تبعث خلايا الرئة السرطانية مزيجا مختلفا من الجزيئات مقارنة مع خلايا الثدي السرطانية. ومع ذلك، فإن رائحة السرطان بالغة الدقة – أنوفنا ببساطة ليست حساسة بما يكفي لكي تشتم ما إذا كان الشخص مريضا بالسرطان أم لا. لكن الكلاب يمكنها فعل ذلك!
الكلاب تولد ولديها قدرة عالية على الشم. وحاسة الشم لديها تفوق حاسّتنا عموما 10.000 – 100.000 مرة، والكثير من أدمغتها تتكرس لتحليل وتحديد الروائح. وقد وضع العلماء أنوف الكلاب قيد الاختبار لعدة سنوات في تجارب مخبرية مراقَبة ودرّبوها على تشخيص السرطان من روائح الجلد أو التنفّس. على سبيل المثال، درّبت منظمة بحث السرطان في سان أنزيلمو، كاليفورنيا، ثلاثة كلاب من نوع لابرادور ريتريفر واثنين من كلاب الماء البرتغالية على شمّ سرطان الرئة والثدي. حيث تنفّس مرضى بالسرطان داخل أنابيب التقطت عينات من تنفّسهم. بعد ذلك خضعت الكلاب عدة أسابيع للتدريب على شمّ العينات. ولأغراض الفحص، استخدم الباحثون مجموعة عيّنات تنفس من مرضى مختلفين. وقد اكتشفت الكلاب بشكل صحيح بنسبة 99% عيّنات سرطان الرئة، وأخطأت بنسبة 1% فقط بين الأصحّاء. وبالنسبة إلى سرطان الثدي، حددت الكلاب عيّنات السرطان بنسبة 88% ولم تخطىء بخصوص الأشخاص الأصحّاء.
وغني عن القول أنه من غير العملي أن يكون لدى كل طبيب عائلة كلب مدرّب يشم رائحة السرطان في عيادته. فالكلاب بحاجة إلى كثير من العناية، وسيكون ثمة ضرورة لأسابيع من التدريب المكلِف والمكثّف، أولا لتعليمها ومن ثم للحفاظ على قدرتها على شم رائحة السرطان. لذلك نحن نطوّر أنفا إلكترونية صناعية من شأنها أن تحاكي حاسة الشم المتفوقة لدى الكلاب. فالمستقبِلات في أنف الحيوان أو الإنسان من الناحية البدنية تمتص الجزيئات الصغيرة المتطايرة المسؤولة عن الروائح. كل مستقبِل receptor يستطيع أن يمتص مجموعة واسعة من الجزيئات. في أنفنا الإلكترونية، تُحاكى المستقبِلات عن طريق مجموعة من أجهزة استشعار الغاز عالية الحساسية. وعلى غرار المستقبلات البيولوجية في أنف الثدييات، يستطيع كلّ واحد من هذه المستقبِلات أن يمتص مجموعة واسعة من جزيئات الغاز أو البخار. وتُعالَج إشارات الاستشعار الجماعية عن طريق كمبيوتر باستخدام نظام حسابي لتمييز الأنماط. ويجب علينا أن "نعلم" الأنف الإلكترونية كيف تحدد رائحة معينة عن طريق كشف مخطط له في المختبر. عندئذ يخزِّن الكمبيوتر النمط الإلكتروني لهذه الرائحة في برنامج بشكل رمز شفري، على سبيل المثال، كما هو موضَّح في الشكل 1، بحيث يمكن تحديد عيّنة مجهولة في المستقبل. وبهذه الطريقة نجحنا من قبل في تحديد سرطانات مختلفة من عيّنات التنفّس: سرطان الرئة، الثدي، القولون، البروستات، الرأس والرقبة، والمعدة.
الشكل 1: التمثيل التخطيطي لاختبار التنفس للكشف عن أنواع مختلفة من السرطان. وكل سرطان له نمط مميز يُمثَّل كرمز شفري.
تطور أجهزة استشعار غازية مناسبة لشمّ السرطان في الزفير أمر يبعث على التحدي من الناحية التقنية. الكثير من أجهزة الإستشعار المختلفة تم تطويرها في الماضي، وهي متوفرة تجاريا الآن، لكنها لا تفي بالمتطلبات الملحّة لفحص التنفّس التشخيصي. ومن حيث المبدأ يجب أن تكون أجهزة الإستشعار قادرة على كشف كميات ضئيلة جدا من الجزيئات العضوية المتطايرة للسرطان، إلى أدنى من أجزاء (أجزاء فرعية) لكل مليار، ويكون لديها، في الوقت نفسه، مجال ديناميكي واسع للكشف. ويجب أن تكون قابلة للتشغيل في درجة حرارة غرفة بدون تبريد خارجي، وصغيرة من حيث الحجم والوزن ويجب أن يكون إنتاجها رخيصا بشكل معقول. وعلاوة على ذلك، يجب أن تكون قادرة على كشف الرائحة الدقيقة للسرطان في جو رطب للزفير بالرغم من التنوّعات الفردية القوية لمستويات رطوبة التنفّس بين الأشخاص.
الشكل 2: مخطط جهاز إستشعاري يقوم على جسيمات نانوية ذهبيةGNPs (وهي ذات أبعاد تقل عن 100 نانومتر) مزوّدة بجزيئات سطح عضوية. وتوضع نقطة من محلولGNPs على موصل كهربائي ذهبي متصل بنظام قراءة إلكتروني. حيث يتبخر المحلول ويترك خلفه طبقة GNP ثلاثية الأبعاد. وقبل ذلك، يوضع الموصل على قطعة من السليكون مغطاة بطبقة عازلة من ثاني أكسيد السليكون باستخدام تقنيات إلكترونية دقيقة نموذجية.
نحن نطوّر في التخنيون أجهزة استشعار جديدة من نوعها تقوم على جسيمات نانوية ذهبية تمتلك جزيئات عضوية محددة تتصل بسطوحها. وتحتفظ هذه الجسيمات بفوائد لا حصر لها للتصميم الخاص بجهاز الإستشعار. والأكثر أهمية أنها صغيرة جدا – بين 1 و 100 نانومتر، وتوفر نسبة كبيرة من مساحة السطح- إلى- الحجم لصالح طبقات إستشعارية مسامية ثلاثية الأبعاد، وتسمح بتنفيذ أجهزة إستشعارية حساسة وموثوقة. ويمكن أن تُصمَّم خصائص الجسيمات النانوية الذهبية الكيماوية والفيزيائية بدقة وملاءمتها للتطبيق الإستشعاري عن طريق ضبط حجم وشكل المراكز الذهبية وعن طريق تزويدها بجزيئات سطح مناسبة تعمل كمواقع امتصاص للجزيئات التي تنبعث منها الرائحة. هذه المواد يمكن تشكيلها بسهولة في كل مختبر كيميائي شريطة أن يعرف المرء الوصفة. وتُصنع أجهزة الإستشعار عن طريق إسقاط بعض محلول الجسيمات النانوية الذهبية على موصلات كهربائية دقيقة نموذجية، كما هو مبيّن في الشكل 2.
الشكل 3: (أ). نموذج مختبر أوّلي لجهاز يدوي يجمع الزفير من مرضى السرطان. (ب) حجرة عرض مع إدخال عيّنات تنفّس في مختبر التخنيون. (ج) منظومة من 18 جهازا إستشعاريا مختلفا تدمج جسيمات نانوية ذهبية متنوّعة لتشخيص عيّنات التنفّس.
يظهر الشكل 3 نموذج مختبرنا للكشف عن السطان: الأنف الإلكترونية. لقد طوّرنا عدة اختبارات تشخيص وفحص للكشف عن السرطان بهذا الجهاز. على سبيل المثال، يستطيع فحص للتنفس من خطوة واحدة أن يحدد بدقة متناهية السرطانات الأربعة الأكثر انتشارا في العالم الغربي، أي سرطانات الرئة، وثدي الأنثى، والقولون والبروستات. وقد صُمم اختبار ثان للثدي، وتحديدا فحص مدخّنين شرهين ممن هم عرضة لخطر نمو سرطان الرأس-و-الرقبة أو الرئة. ويمكن أن يصنّف مزيد من فحوصات التنفّس أنواعا مختلفة من سرطان الرئة لأغراض تشخيص علاج السرطان، لأنه من الناحية التشريحية والجينية غالبا ما تستجيب سرطانات مختلفة لعلاجات مختلفة. كما أن فحوصات الثدي مفيدة أيضا كفحوصات تشخيصية ثانوية سريعة لتكملة أساليب فحص تقليدية. على سبيل المثال، يمكن تصنيف عُقد رئوية غير محددة يتم التثبّت منها عن طريق التصوير المقطعي (CT) باعتبارها حميدة أو خبيثة. هذا الفحص سيكون وثيق الصلة إلى حد كبير بالممارسة الإكلينيكية لأن التصوير المقطعي يكشف فقط عن التغيرات المورفولوجية في الرئة، لكنه ليس حساسا تجاه ما هو خبيث. ومن المهم الإشارة إلى أن القدرة التشخيصية لنموذج مختبرنا الأوّلي لم تتأثر بالعوامل المربكة مثل الإختلافات في العمر، والجنس، ونمط الحياة، والتغذية، والعلاج، وعادات التدخين التي من شأنها أن تؤثر أيضا في تنفّس الشخص.
وتلخيصا لما ورد أعلاه، فإن فحص التنفس للكشف عن السرطان والذي تم تطويره في تخنيون سيكون سريعا، وآمنا، وفعالا من حيث التكلفة المحتملة. وهذه الطريقة التشخيصية الجديدة تمتلك إمكانية واقعية لكي تصبح جزءا لا يتجزأ من الكشف عن السرطان المرتكز على السكان وإدارة السرطان ذات الطابع الشخصي في المستقبل القريب، مع أن التقنية ما تزال غير ناضجة بما يكفي لأغراض الاستخدام الإكلينيكي الوشيك.
إقتراحات لمزيد من القراءة:
(1) Tisch, U.; Haick, H. Arrays of chemisensitive monolayer-capped metallic nanoparticles for diagnostic breath testing. Rev. Chem. Eng. 2011, 26, 171-179.
(3) Peng, G.; Hakim, M.; Broza, Y. Y.; Billan, S.; Abdah-Bortnyak, R.; Kuten, A.; Tisch, U.; Haick, H. Detection of lung, breast, colorectal, and prostate cancers from exhaled breath using a single array of nanosensors. Br. J. Cancer 2010, 103, 542 – 551.
(4) Peled, N.; Hakim, M.; Bunn, P. A.; Miller, Y. E.; Kennedy, T. C.; Mitchell, J. D.; Weyant, M. J.; Hirsch, F. R.; Haick, H. Use of a nanoparticle-based artificial olfactory system, NaNose, to distinguish malignant from benign pulmonary nodules. J. Clin. Oncol. 2010, 28, 10521.