قم للمعلم وفه التبجيلا
البروفيسور حسام حايك.
لطالما شاركتكم في الإخبار المتعلقة بمسيرة الأبحاث والمبادرات العلمية التي أقودها مع فريق أبحاثي، آملا أن تكون هذه الاخبار عنصرا مشجعا وملهما لأبنائنا في تبني مبادئ التفكير العلميّ والسير نحو البحوث العلمية؛ لكونها أحد أهم عناصر النهضة المجتمعية، الاقتصادية، والحضارية. ولكني قليلا ما تطرقت إلى أساليب التعليم وآثارها على بناء شخصية الطالب وتنمية قدراته الحسية، والاجتماعية، والعلمية، على حد سواء. ورغم إطلاعي على نظريات التعليم المختلفة وتأثيرها على صقل شخصية الطالب، إلّا أنني لم أولها الاهتمام الكافي من الناحية التطبيقية؛ فبقيت في مخيلتي ليست أكثر من نظريات في الفلسفة التربوية، بعيدة عن التطبيق لأسباب كثيرة ومتعدّدة. وقد أشاح البون الشاسع بين النظرية والتطبيق في مدارسنا إمكانية التفكير أن النظرية قابلة للتطبيق داخل جدران المدرسة المعهودة بمقدراتها المتواضعة .
إلّا ان تجربتي هذه السنة في ألمانيا غيرت جزءًا من المفاهيم لدي حول إمكانيات التطبيق العملي لهذه النظريات، وحول دور المدرسة والمعلم في التغيير الاجتماعي، وفي صقل وبناء شخصية الطالب القياديّة، وتمكينه من اكتشاف قدراته. وأود هنا أن أشارككم التجربة الفريدة التي نعيشها مع ابننا فادي، ومسيرته التعليمية آملا أن تكون محفزًا ومدخلًا نحو التفكير في طرق ووسائل التدريس المتبعة في مدارسنا.
ولكن بداية يجب الإشارة أوّلا إلى أنني لا أنفي الموجود من قدرات تعليمية وإمكانيات لدينا، بقدر رغبتي في استحداث الوسائل والشروط التعليمية الداخلية المرتبطة في رؤية الجهاز التعليمي في بناء جيل قادر على السير قدما، مرفوع الهامة في مقدمة السائرين في عالم متغير وغير ثابت. وثانيا، رجائي منكم ان تُفهم رسالتي بمفهومها ومضمونها التربوي الاجتماعي فقط، وليس الشخصي, فموضوع الكتابة لست أنا أو ابننا فادي - فالتطرق اليه هو فقط لتجسيد الرساله .
قبل سنة انتقلت إلى ألمانيا في إجازة تعليميّة لمدة سنة في معهد ماكس بلاك لعلوم البوليميرات وقبيل الانتقال أجريت بحثا عميقا حول المدارس الملائمة لابني فادي في الصف الثالث. وبعد البحث استقر رأينا في البيت على مدرسة فرانكفورت الدوليه والتي تضم مجموعة طلاب من أكثر من 50 جنسية حول العالم، ورغم قرارنا واختيارنا، إلّا أننا كأهل كنا متخوفين من موضوع اللغة، كون فادي في الصف الثالث ولا يجيد من الانجليزية إلّا ما تيّسر له تعلمه حتى الان، وما زال يستصعب تركيب الجمل اللغوية والتواصل بشكل جيد. أيضا، كانت لدينا مخاوف تتعلق في صعوبة الاندماج في بيئة جديدة، تضم طلابًا من ثقافات مختلفة وجديدة بالنسبة لطالب في الصف الثالث. مفاجأتنا انه ومنذ الأسبوع الأول بدأت هذه المخاوف تتلاشى، وبدأت التغيّرات الايجابية والنتائج تظهر تباعا مع مرور الأيام في قدرات فادي على الصعيد الاجتماعي والنفسي والتعليمي. وبدا التغيير واضحا وجليا في سلوك ابننا وقدراته اللغوية، والحسابية، وطرق التفكير، والقراءة بشغف، التي اصبحت إحدى الهوايات المفضلة لديه. مما استدعاني الى مراقبة هذه التغيرات الايجابية وأيضا الاستفسار والاستقصاء والبحث اكثر حول طرق التعليم المتبعة في المدرسة.
ويسعدني هنا أن اضع بين ايديكم بعض ما لمست:
الايجابية : توجهات المدرسة والمعلم تجاه الطالب ايجابية جدا وهم بالتالي يبثون جو من الايجابية والثقة داخل غرفة الصف. المعلم مؤمن بقدرات كل طالب ويحاول ان يفهم نقاط قوته والنقاط التي تحتاج مهارات جديدة. المعلم هو ميسر للجو التعليمي وباني الاقليم الصفي المناسب للتعلم. مثلا، ماذا يفعل المعلم عندما يمل الطلاب ويبدؤون الازعاج؟ ينضم اليهم من خلال وصلة موسيقية يرقص بها الجميع لعدة دقائق ومن جديد يعود للفت انتباه الجميع والتركيز في البحث في المواضيع المختلفة.
المعلم: المعلم ليس مركز ومحور الأمور ولكنه مخطط البرامج و مُيسر المواضيع، ومُثير الاسئلة والتحفيز في المقام الأول، وليس من اجل التلقين أو التعليم. فهو يهيّئ الأجواء النفسية والاجتماعية لكل طالب ليبدع... فهو صديق الجميع الذي يضيء الطريق بمصباح ولكنه لا، بل يدع الطلاب يخطون ويبحثون وينتقلون من معلومة الى أخرى. فهو من يساعد في تنظيم المعلومات التي جُمعت وبنائها على شكل قواعد ونظريات لفهم ظواهر اكبر . وهذه طرق ما تكون اقرب الى الاستقراء في بناء مفاهيم واسعة وعامة اعتمادا على البحث في الاجزاء. وبهذا يكون الطالب قد منتجا للمعلومات وليس فقط مستهلكا.
الأدوات وليس المواضيع: لفت انتباهي ان المعلم يركز كثيرا على اعطاء ادوات للطلاب وليس على تعليمهم بالمقام الاول. فيوجد تركيز كبير على قراءة الكتب أسبوعيا. هناك قائمة من الكتب متدرجة الصعوبة... وبعد القراءة، هناك اهمية كبرى للتعبير الكتابي وتلخيص هذه القصص بمنظور "ما هو رأيك في القصة"؟ حيث يُطلب من الطالب التعبير الكتابي ويتم إعطاؤه أدوات تدريجية في كيفية التعبير عن نفسه وأحاسيسه وفي كيفية وصف الواقع وأيضا نقد القصة من وجهة نظره. بالإضافة للتعبير الكتابي، يُطلب من الطلاب التعبير من خلال الخطابة و كيفية الإلقاء والتحدث أمام الجمهور، كيف يبدأ قصة وكيف يوصل الرسالة، كيف يكون صديقا جيدا، كيف ينظم وقته، كيف يكتب رسالة وكيف يعبر عن ذاته. لكل طالب جدول من الأدوات (Soft Skills) يجب تعلمها تدريجيا .
طرق التعليم: في كل صف يوجد معلم واحد لكل اليوم ومساعد. التعليم ليس من خلال الموضوعات المعهودة (مثل حصة حساب، أو حصة لغة، أو حصة جغرافيا) بل من خلال مواضيع جامعة (Units) – على سبيل المثال، بحث موضوع الأهرامات في مصر. فمن خلال بحث الموضوع يتعلم الطلاب عن الحضارة المصرية القديمة والحديثة، الجغرافيا، علوم الفلك، قصص مصر القديمة، رياضيات، وعلوم مختلفة ومواضيع أخرى متعلقة. التعليم يتم من خلال البحث الشخصي ومشاركة المعلومات, فيطلب من الطلاب تقديم مبادرات، وفعاليات حول ما تعلموه فيختار الطلاب مثلا القيام بمسرحية لنقل القصة، أو كتابة موضوع إنشاء، أو الرسم إلخ ... ما ألمسه أنهم يعلمون الطلاب أن البحث والتفكير العلمي هو منهج حياة وليس أمرًا متعلقًا بالتعليم فقط.
أجواء الصف: يقوم المعلم بوضع كل طالب في مركز الحدث، فيتعرف عليه وعلى قدراته وتحدياته؛ فيبادر أولا الى ربط الطلاب الجدد بالطلاب القدامى، ويحثهم إلى دعوتهم إلى بيوتهم وإلى التعرف عليهم، فمن جهة اولى، خلال أقل من أسبوع يستطيع الطالب الجديد أن يُكّون صداقات، وعلاقات اجتماعية ممتازة تمكنه من الانخراط في مجموعات العمل التعليمية والإبداعية. ومن جهة ثانية، اعطاء الطلاب القدامى مسؤولية ذاتية واجتماعية في دمج الطلاب الجدد والمشاركة في التخفيف من الشعور بالغربة والجميل في الامر ان الطالب الجديد يمكنه خلال اقل من شهر ان يؤدي نفس الدور لطالب حديث العهد في المدرسة.
القراءة: هذا الامر أثار فضولي الكبير... بدأ فادي في بداية السنة يقرأ قصصًا بسيطة من عدة صفحات، وخلال السنة تدرج في درجة الصعوبة حتى بات يقرأ قصصا طويله جدا دون الرجوع للقاموس، بل ويقوم بتلخيصها في اللغة الانجليزية. ما جذبني اكثر أنه بدأ ( وبمبادرته الشخصيه) يحمل كتابه ويقرأ في الباص في طريقه من والى المدرسة. في الاستراحة وفي كل لحظة بات الكتاب رفيقا ملازما. حتى بين مسابقات السباحة القطريه والدوليه بات الكتاب رفيقا لا تنازل عنه. فَتَحْت الضغط الهائل لتقديم أفضل ما يملك في مباريات السباحه، كان يُخرِج كتاب المطالعه من حقيبته بين التحدي والأخر ويغوص به لإستكشاف عوالم وثقافات جديده... فالمطالعة للنفس كالرياضة للجسم!
الكتابة والتعبير: التطور الذي حصل في طرق كتابة الفكرة والتعبير، واستعمال الضمائر، وأساليب ادخال الأحاسيس والإبداع في ابداء الفكرة مثير جدا . ففي البداية عندما كان يكتب موضوعا إنشائيا كان الموضوع يميل إلى الوصف الواقعي لما يشاهده ويراه. واليوم أصبح الامر اشبه بقصة غير متوقعة تفاجئك مجرياتها اضافة للنقد وبناء افكار مغايرة .
العلاقة بين الأهل والمعلم: المعلم يلعب دورا خفيا في تسيير وتيسير الأمور على الطالب. فالأهل ضمن هذه المنظومة هم جزء مهم داعم للطالب في بناء شخصيته ومسيرته التعليمية. المعلم يلعب دورا حقيقيا في التقرب من الطالب وبناء برنامج له. يؤمن المعلم في المدرسة أن على الطالب أن يكون دائما بمهمة ومن غير الصحي ترك الطالب بدون مهمة. اذكر عندما وقفت لأتحدث مع المعلم حول ابني فادي وتجاوزنا الخمس دقائق. انتبه المعلم إلى أن فادي يقف بيننا بدون عمل، فاعتذر مني وانحنى إلى أن وصل إلى قامة فادي وسأله إن كان بإمكانه ترتيب المكتبة الصفية. وعندما عاد المعلم قال لي أعطيته مهمة ليقوم بها. مضيفا أنه من المهم التخطيط لكل طالب مهمات عمل وعدم ترك فجوات يكون فيها الطالب بدون مهمة لأنه يَمّل.
راودتني الكثير من الأفكار والأحلام والتساؤلات، حول التعليم في بلادنا، وتساءلت بماذا يختلف معلّمونا عن معلّمي الدول الأخرى. أومن وبشدة أن معلّمينا لديهم قدرات هائلة، لكنهم بحاجة إلى دعم لترتيب أدواتهم ضمن منظومة تضع الطالب في مركز الهدف، لصقل أدوات الطالب البحثيّة. كتبت هنا بعض هذه الافكار الاولية وكلي ثقة اننا نملك الامكانيات لصنع التغيير. عسى ان تكون هذه الكلمات منبرا جاذبا لبناء مبادرات تربوية تساهم في بناء مجتمعنا .