سليم زاروبي
فيزيائي فلك
على هامش اكتشاف كواكب سيارة مثل الأرض في الفضاء
من منا لا يفكر في موقع الإنسان في الكون ولا يتساءل في ما إذا كانت هناك حياة أخرى في هذا الفلك الفسيح. يعتقد الأغلب بأن هذا السؤال هو سؤال "فلسفي" لا جوانب عملية له ولا يمكن الإجابة عنه، أو أن حيّزه هو فقط في قصص وأفلام الخيال العلمي التي يطلق مؤلفوها لخيالهم العنان، فيبتدعون المخلوقات الغريبة ويصمّمون العوالم العجيبة. لكن في الحقيقة هذا السؤال هو علمي محض، له خبراؤه وتقنيّاته وأساليب دراسته المميزة والمتعدّدة، وله إسقاطاته العميقة على فهمنا للكون إجمالاً. وبالرغم من قِدَم هذا السؤال، إلا أن دراسته لم تتبوّأ موقعا مركزيا في دراسات علماء الفلك حتى قبل عقدين من الزمن، حيث ابتدأ هذا المجال من الدراسة في احتلال موقع الصدارة في أبحاثنا، حتى أصبح من أهم مواضيع البحث فيها٠
ما تغيّر قبل عقدين هو اكتشاف أول كوكب سيار خارج المجموعة الشمسية يدور حول نجم شبيه بالشمس، على يد فريق أبحاث سويسري. هذا الاكتشاف أدّى إلى فتح آفاق جديدة وخلق نشاط وإثارة مجدّدتين في مجال البحث عن حياة أخرى في الكون٠
حتى الآن اكتُشف ما يقارب 3400 كوكب سيار خارج المجموعة الشمسية. ولهذه الكواكب السيارة كتل وأحجام مختلفة، تدور حول نجومها على أبعاد متنوعة. أكثرية الكواكب السيارة التي وُثّقت ذات كتلة أكبر من كتلة الأرض بكثير وتدور حول نجمها على بعد صغير، وذلك نتيجة لسهولة رصدها نسبيا! أدت هذه الاكتشافات في العقدين الأخيرين إلى تقدير عدد الكواكب السيارة في مجرتنا (درب التبانة) لوحدها، بحوالي المئة مليار، وهو رقم مذهل٠
بناء على العينه الصغيرة التي رصدناها حتى الآن، نستطيع تقدير عدد الكواكب السيارة التي تشبه الأرض ومدارها يقع عل بعد من نجمها بحيث تكون درجة الحرارة عل سطحه تسمح بوجود ماء سائل (ما يسمى بالمنطقة القابلة للسكنى). محصّلة هذا التقدير هي أنه في مجرتنا لوحدها، هناك حوالي المليار كوكب سيار كهذا. هذا عدا أنه في الكون المرئي لوحده ما يعادل المئة مليار مجرة٠
فلنقف برهة لنتأمل ما تعنيه هذه الأرقام ولنتخيل الإمكانيات غير المحدودة لأنواع الحياة وأشكالها في الكون. هذا مع العلم بأن المادة البين نجمي مليئة بالمواد العضوية المركبة، من ضمنها حوامض أمينية معقدة، وهي حجارة البناء للحياة. لهذا من الممكن التصور بأن هناك حياة على أغلب هذه الكواكب السيارة٠
من تجربة الحياة الوحيدة التي نعرفها حتى الآن، أي على الأرض، نحن نعلم بأن الحياة ابتدأت بشكل بدائي جدا (وحيدات الخلية)، وتطورت بسرعة نسبية لأشكال حياة معقدة. بالطبع لا نستطيع أن نجزم بأن هذا التطور يحدث على جميع الكواكب السيارة، ولكن من المعقول أن نتوقع وجود أشكال حياة مركبة على عدد كبير منها٠
لكن كم من هذه الكواكب السيارة تأوي حياة ذكية وليست فقط مركبة؟ وهنا بالطبع نقصد كائنات تسأل أسئلة حول وجودها في الكون، وتملك من قدرة الإدراك ما يسمح لها بسبر غور قوانين الطبيعة والتعمق بفلسفة الوجود، وتملك التطور التكنولوجي والتنظيم الاجتماعي المتقدم. أي في كم من هذه الكواكب تقطن كائنات متقدمة كالإنسان؟ طبعا لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال لكننا ربما نستطيع استخلاص بعض العبر من تطور الحياة على الأرض.
لنأخذ مثلا الحقيقة التالية، تكونت الكرة الأرضية قبل حوالي 4.5 مليار عام، وبعد ذلك بقليل ابتدأت الحياة بالظهور على الأرض (أقدم دلائل مادية على وجود حياة عمرها 3.7 مليار عام)، مقابل هذا عمر جنسنا البشري (ما يسمى الإنسان العاقل)، الكائن الحي الواعي الوحيد الذي نعرف عنه، هو 200 ألف عام فقط − وفي العشرة آلاف سنة الأخيرة فقط، على أثر الثورة الزراعية والتي تعتبر بداية التاريخ، أنشأ البشر حضارات وأطرًا منظمة. أي أنه خلال معظم تاريخ الحياة على الأرض لم تكن هناك حياة ذكية٠
هذا ومن الجدير ذكره أنه لولا حدوث أحداث عشوائية لما كان الجنس البشري موجودا اليوم. فمثلا، لولا انقراض الديناصورات غير الطائرة (الطيور هي من بواقي الديناصورات)، لما ارتقت الحيوانات اللبونة إلى قمة السلسلة الغذائية التي سمحت بتطورنا نحن. أو لو لم ينجُ الجنس البشري من الانقراض قبل حوالي السبعين ألف عام، حيث يقدر الخبراء هبوط تعداد الجنس البشري إلى ألفَيْ إنسان على الكرة الأرضية قاطبة (كما يظهر، نتيجة لانفجار بركاني كبير في جزيرة سوماترا). وهناك العديد من الأحداث الأخرى التي حدثت نتيجة الصدفة والتي لولاها لما كانت هناك حياة ذكية على الأرض!
هل هذا يعني بأنه لم تكن لتتطور حياة ذكية أخرى على الأرض؟ لا ندري الإجابة عن هذا السؤال، ولكننا نعرف اليوم بأن هناك الكثير من الحيوانات التي تملك ملَكات وصفات متقدمة قد تتطور مع الزمن لتتحول إلى حياة ذكية ومفكرة. فمثلا نحن نعرف بأن الغراب قادر على حل مشاكل معقدة نسبيا، وهي صفة كنا نعتقد بأنها حصرية بالإنسان. ونعرف بأن الاتصال ما بين الدولفينات يرتقي لأكثر من إصدار أصوات للتحذير من الخطر. هل من الممكن أن يتطور هذا إلى استعمال لغة في المستقبل؟ لا نعرف، ولكننا نعرف بأن ملكة اللغة عند الإنسان هي ملكة خاصة به تعود إلى طفرة جينية (هذا أساس نظرية نوعم تشومسكي في علم اللغة)٠
إذًا نستطيع التلخيص بأنه في ما يتعلق بتطور حياة ذكية، ما لا نعرفه هو أكثر بكثير مما نعرفه. وأن تجربتنا على الأرض قد تكون فريدة من نوعها أو شائعة جدا في الكون. السبيل الوحيد لمعرفة الأجوبة عن مثل هذه الأسئلة هو بالاستمرار في هذا المشروع الرائع الذي نسعى به لاكتشاف ما حولنا في الكون، وفهمه. فمن يعرف ماذا سنجد وما ستكون تداعياته على الجنس البشري. فقد نكتشف مليارات الكواكب الصالحة للحياة وعليها أجناس ومخلوقات غريبة، ربما بعضها ذكي، يسبقنا بكثير، أنشأ حضارات وبنى إمبراطوريات وطوّر المعارف والفلسفة وسبر غور الطبيعة. وربما نكتشف بأن هناك أشكال حياة غريبة تختلف عن مبنى الحياة على الأرض، ولربما حتى أشكال حياة صناعية طورتها أصلا حياة بيولوجية قد انقرضت منذ زمن بعيد. أو لربما لا نجد حياة أخرى أبدًا. فمهما كانت اكتشافاتنا فهي ستساعدنا، لا محالة، في محاولة فهمم موقعنا في الكون وتطورنا٠
في الختام أود أن أضيف تساؤلا آخر ذا بعد أخلاقي وقيمي، مستقى أيضا من تجربتنا على الكرة الأرضية. ما الذي يضمن أن تستمر الحياة الذكية إذا نشأت ولا يقضي عليها غرورها وقلة تدبيرها وكرهها للآخر وخوفها من المختلف. فمثلا خلال الحرب الباردة، كما نعلم اليوم، كان هناك على الأقل خمس حالات من الإنذار النووي، أشهرها خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، التي كان بها الجنس البشري قاب قوسين وأدنى من حرب دمار شامل بين الاتحاد السوڤياتي والولايات المتحدة، بإمكانها محو الجنس البشري قاطبة. بل وأسوأ من ذلك هو تجاهلنا لظاهرة الاحتباس الحراري التي نحن سببها، والتي تدفع الطبيعة والبيئة إلى كارثة كبيرة تتضمن انقراض أعداد كبيرة جدا من الأحياء، قد يكون الجنس البشري من ضمنها. هذا كله لأن "ذكاءنا" يُملي علينا تسخير الطبيعة لمنفعتنا، ظانين أنّنا فوق الطبيعة وأنها وجدت لتخدمنا. إذا استمررنا بهذه الطريق سينتهي بنا هذا "الذكاء" بأن ندمر أنفسنا. إذًا ما الذي يضمن لنا بأن الحياة الذكية في الكون، أينما كانت، لم تتبع نفس النهج الذي نتبعه نحن وأدى بها "ذكاؤها" إلى القضاء على نفسها٠
لا بد لمثل هذه التساؤلات بأن ترشد أبحاثنا، ليس فقط في ما يتعلق بإيجاد حياة على كواكب أخرى بل، ولربما أهم من ذلك، لفحص إسقاطاتها على كيف نعيش حياتنا ونعامل بيئتنا. فلعلّنا نجد يوما في هذا الفضاء الفسيح، حياة واعية وذكية تتعالى عن إرضاء مصالحها الآنيّة الضيقة، وتعيش حياتها بتوازن مع بيئتها والكائنات الأخرى التي تشاركها الحياة على كوكبها. لعل تلك الحياة الواعية، ليست ذكية ومُحِبة للمعرفة فحسب، بل أيضا حكيمة، قنوعة، صبورة ومتواضعة، تعي بأنها يجب أن لا تستعبد الطبيعة بل تكون شاكرة لها، لأنها تعيش بفضلها. ولا تتجاهل المخلوقات الأخرى، ضاربة بعرض الحائط شروط معيشتها وسلامتها، بل تشاطرها خيرات كوكبها. لربما كانت كائنات فضائية كهذه، إذا وُجِدت، هي من نعته الأقدمون بالآلهة