كي نفهم الطريقة التي تتواصل البكتيريا من خلالها مع بعضها البعض لنتخيّل السيناريو الآتي:
أنت ترجع إلى بيتك بعد يوم طويل من العمل لتجد أنّ المنزل هادئ لكنّ الأضواء مشتعلة، عندها سوف تنادي بصوت مرتفع: "هل من أحد هنا؟". في تلك اللحظة يأتي صوت أولادك مرتفعاً ومليئاً بالفرح، وتُلقي عليك زوجتك التحيّة من المطبخ، من خلال هذا الردّ سوف تكوّن تصوّر عن وضع عائلتك. فلو كانت زوجتك عالقة تحت قطعة أثاث وقعت عليها مثلاً، لكانت طلبت منك المساعدة، ولو سألك أولادك ما إن كنت قد أحضرت معك البيتزا أو لا، لكنت علمت بأنّهم يتضوّرون جوعاً.
لربّما سمعت أيضاً أصوات الحيوانات حين تتواصل مع بعضها البعض، لكنّنا أخذنا الكثير من الوقت لنستوعب أنّه حتّى بعض أصغر الكائنات الحيّة على هذه الأرض، كالبكتيريا مثلاً، بإمكانها التواصل مع بعضها البعض، فقد وجد العلماء في ستينات القرن الماضي أنّ هنالك بكتيريا تدعى فيبريو فيسشيري
"Vibrio fischeri" تطلق كميّة كبيرة من التوهّج حين تزداد كثافتها العددية. إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ التوهّج المنبثق عن هذه البكتيريا يحتاج للكثير من التمثيل الغذائي، فإنّ العلماء لاحظوا بأنّ هذه البكتيريا تحرص على حفظ طاقتها إلى أن تحين اللحظة التي تصل بها لعدد معيّن. يطلق الباحثون على هذه الظاهرة اسم "استشعار النِّصاب" والتي تعني بأنّ هذه البكتيريا تتواصل فيما بينها لتحديد كثافة المستعمرة البكتيريّة العددية.
كيف يتمّ ذلك؟ لقدّ تبيّن أنّ البكتيريا ترسل إشارات أو ما يسمّى بعمليّة الأوتوإنديوسيرز "autoinducers" الشبيهة بطريقة الفيرومونات "pheromones" والتي تستخدمها الحيوانات في مواسم التزاوج أو للتحذير من الأخطار عن طريق إرسال ما يشبه الرائحة. إن تركيز مادّة الأوتوإنديوسيرز يشير إلى حجم الكثافة في تلك المستعمرة البكتيريّة، لكن ما يميّز طريقة تواصل البكتيريا عن طريقة الفيرومونات هي أنّها لا تتواصل مع نوعها فقط، فمؤخراً توصّل العلماء إلى أنّ البكتيريا تمتلك مستقبِل تستخدمه للتواصل مع نوعها وأيضاً مستقبِل للإشارات التي تُرسَل من أنواع أخرى من البكتيريا.
يمكننا القول إذاً بأنّ ما يحدث في المستعمرات البكتيريّة يشبه ما يحدث في سيناريو التواصل الإنساني الذي تمّ ذكره سابقاً، فبالإضافة إلى التواصل الذي تقوم به البكتيريا عن طريق التوهّج البيولوجي، ربّما تستشعر رسائل معيّنة فيما بينها كما نفعل نحن تماماً.
لماذا يعدّ هذا الأمر مهمّاً؟ إنّ معرفتنا لكيفيّة تواصل البكتيريا فيما بينها قد يساعدنا على محاربة الأمراض، فالكثير من أنواع البكتيريا التي تهاجم الجسم تهاجم الجهاز المناعي للإنسان حين تصل لحدّ معيّن من هذه البكتيريا، لذلك، وبدلاً من انتظار مهاجمة البكتيريا لجسم الإنسان، فإنّ منتجي الأدوية مهتمّون بتطوير طريقة للتأثير على الروابط التي تتواصل البكتيريا من خلالها قبل أن تبدأ عمليّة التواصل أصلا، في هذه الحالة، لن تستطيع البكتيريا أن تقرر الوقت المناسب لبدء العدوى في جسم الإنسان.
المصدر