علماء الأعصاب يفكّرون بطرق لسد الثغرات الموجودة في المعرفة الحالية حول الدوائر العصبية.
يوظّف العلماء الكثير من القدرات العقلية في فهم كيفية عمل معداتهم التجريبية.
أنت لا تريد أن تظهر بمنظر المخدوع حين تظنّ أنّك قد توصّلت إلى اكتشاف كبير، وكلّ ما في الأمر أنّ ذلك الاكتشاف ليس سوى عطل في الأداة التي قمت باستخدامها ولم تكن تعرف بذلك العطل. أشارت ورقة بحث جديدة نُشرت مؤخراً على الإنترنت إلى أن الأدوات المستخدمة للكشف عن موجات الجاذبية أظهرت عطلاً قد يكون السبب وراء الكشف عن موجات ربما لم تكن موجودة أصلاً.
لا يُضعف هذا من أهميّة الاكتشافات الموجيّة، لذلك لا يجب على مشجعي "موجة الجاذبية" القلق أيضاً، فالنتائج التي يفترض أن تكون راسخة في بعض الأحيان تتلاشى، وفي هذه الحالة، يبدو أنّ العلماء قد أهملوا فهم أهم جزء من الجهاز التجريبي بأكمله، ألا وهو أدمغتهم الخاصة.
إنّ الدماغ هو ما يقوم بهذه التجارب ويفسر نتائجها. إنّ معرفة كيفيّة إدراك الدماغ للأمور واتخاذه للقرارات والأحكام، وكيف يمكن أن تنحرف هذه الأحكام عن مسارها هو أمر لا يقل أهمية عن معرفة تعقيدات الآلات التجريبية غير الحيوية في العلم. هناك طريق طويل يجب علينا أن نسلكه قبل أن نتخلّص من الطريقة التي قد يعترض بها عدم فهمنا لعمل الدماغ للاكتشافات التي يسعى لها العلم، وفي كلّ الأحوال، ما يهمّ هو أنّنا نسير على هذه الطريق.
يقدّم عدد خاص من مجلة "أعصاب" Neuron مجموعة ملائمة من أوراق بحثيّة تقدّم نظرة عن الحالة الراهنة المتبعة في فهم العمل الداخلي في الدماغ. تُظهر تلك الأوراق أنّنا نعرف الكثير عن أدمغتنا، إلّا أنّ هناك الكثير مما لا نعرفه بعد.
إن النظر في جدول المحتويات يكشف عن الدرس الأول في فهم الدماغ، وهوّ أنّ عملية فهمنا لأدمغتنا هو أمر معقد ونحتاج إلى التعامل معه من وجهات نظر متعددة.
هناك في المستوى الأوّل ديناميات التيارات الكهربائية التي تشكل أسلوب الإشارات الرئيسية للخلايا العصبية في الدماغ. تأتي على المستوى الأعلى الحاجة لمعرفة القواعد التي تقوم بها الخلايا العصبية بعمل اتصالات، وهو ما يطلق عليه تشابك عصبي، لتخلق الدوائر العصبية اللازمة لمعالجة المدخلات الحسية والتعلم والتصرف.
هناك تحد آخر يكمن في فهم كيفية تمثيل شبكات الخلايا العصبية للذكريات وكيفيّة قيامنا بتذكر ما تعلّمناه. من الضروري أن نفهم أيضاً كيفيّة ترجمة عمليّات المعالجة العصبية الحيوية التي تجريها الجزيئات والخلايا والإشارات الكهربائية إلى سلوكيات بدءً بالحركات الجسدية البسيطة إلى التفاعلات الاجتماعية المعقدة.
من المعروف أنّ الخلايا العصبية في الدماغ تتواصل فيما بينها عن طريق نقل الإشارات الكهربائية بمساعدة الإشارات الكيميائية في المشابك العصبية التي تربط الخلايا العصبية. هناك ثغرات في فهم كيفية قيام هذه العملية بتحويل التصورات إلى أفكار ومن ثمّ إلى أفعال. تصف الأوراق البحثيّة التصوريّة في دوريّة "أعصاب" Neuron كيفية عمل الدماغ حسب ما نعرفه حاليّاً، كما وتُقدم تخمينات عن الأشياء التي لا يمتلك العلماء فهماً كاملاً لها.
ينطوي الجهد المبذول لشرح طريقة عمل الدماغ على رسم خرائط للإشارات الكهربائية في جميع أنحاء شبكة اتصالات الخلايا العصبية. يناقش "بير رولاند" من جامعة كوبنهاغن كيفيّة تنوّع هذه الإشارات في المكان والزمان. يؤكد رولاند على أهميّة التوازن بين الإشارات التي تحرض الخلايا العصبية على إرسال إشارات، والرسائل التي تمنع هذه الإشارات للحفاظ على بعض الخلايا العصبية هادئة.
تؤكّد "صوفي دينيف" وزملاؤها من مدرسة الأساتذة العليا في باريس على التوازن بين تنبيه وتثبيط الدوائر العصبية. يُعتبر هذا التوازن مهم لفهم كيفيّة قيام الدماغ كاملاً بتعلّم فعل الأشياء بناءً على التغيرات في الروابط الموجودة بين الخلايا العصبية الفردية.
إنّ القواعد التي تحكم الاتصالات المتشابكة بين الخلايا تمكن هذا النشاط "المحلي" من تعديل الدوائر العصبية "العالمية" التي تقوم بمهام الدماغ المتعددة. يؤثر التوازن بين تثبيط التنبيه و التغذية الراجعة على الشبكة العالمية التي تؤثر على قوة التشابك العصبي. يقول دينيف وزملاؤه: "يمكن تعلّم الوظائف العالمية عن طريق قواعد التعلم المحلية".
تتضمّن كل هذه المناهج المتبعة لمعرفة الدماغ كيفية معالجة الدّماغ للمعلومات. إنّ السؤال الأساسي في نهاية المطاف هو كيفيّة قيام الدماغ بهذه العملية الغامضة التي يمتصّ من خلالها المعلومات على شكل أضواء وألوان وأصوات وروائح ومدخلات عن طريق اللمس وتحويلها إلى أفعال جسديّة وهي سلوكيات مثالية كردود مناسبة لهذه المدخلات. يقوم الدماغ بتحويل المدخلات إلى مخرجات، وهي معلومات حول العالم الخارجي، لإنتاج معلومات حول كيفيّة التصرّف بناءً على هذه المعلومات بشكل شبيه بعمل الحواسيب.
يرى كلّاً من "شاك بيتكو" و"دورا أنجلاكي" من كلية بايلور للطب وجامعة رايس في هيوستن أنّه ونظرًا لكون المدخلات الحسية تمتلك حدوداً قد يكون البعض منها غامضاً، فإن المتغيرات المعلوماتية للعالم الخارجي لا يمكن قياسها بشكل أكيد. يجب أن تستند الخيارات السلوكية في الدماغ على بعض أساليب حساب الاحتمالات للاستدلال على الحالة المحتملة للعالم ومن ثم اختيار الإجراءات الأكثر حكمة، رغم أنّها أحياناً قد لا تكون حكيمة، في الاستجابة.
يقول كلّاً من بيتكو و أنجلاكي أنّه "من المقبول على نطاق واسع أن الدماغ يقوم بطريقة أو بأخرى بتقريب الاستدلال الاحتمالي"، لكن لا أحد يعرف كيفيّة عمل الدّماغ بدقّة. يقترح كلّاً من بيتكو و أنجلاكي أن العديد من الخلايا العصبية في الدماغ تقوم بأداء حسابات مختلفة لاتخاذ القرارات السلوكية المناسبة.
يجب أن تمثل أنماط الإشارات الكهربائية من قبل هذه الخلايا العصبية المحفزات الحسية الأصلية وهو ما يعني أن يتمّ ترميز الأنماط الموجودة في المحفزات في أنماط الإشارات الكهربائية بين الخلايا العصبية. يصف بيتكو وأنجلاكي بأنّ هذه الأنماط الإشارات العصبية ثم يتم ترميزها بعد ذلك في مجموعة أخرى من الأنماط حيث تقوم هذه العملية بفرز المتغيرات الهامة في البيئة من تلك غير الهامّة. يتم فك هذه الأنماط بعد ذلك في عملية توليد الإجراءات السلوكية.
يبدو أن الدماغ ينفذ خوارزميات لجمع وتقييم المعلومات المتعلقة بالبيئة وترميز تلك المعلومات في رسائل تخبر الجسد بما يجب القيام به. على نحو ما تسمح هذه الخوارزميات للدماغ بإجراء الحسابات الإحصائية التي تجمع بين المعتقدات حول البيئة مع النتيجة المتوقعة من السلوكيات المختلفة.
يقدّم كلّاً من بيتكو و أنجلاكي تخمينات معقدّة حول الطرق الممكنة التي يستطيع الدماغ من خلالها انجاز المهمة. ومن الواضح أنّ هذه العملية هي عمليّة معقدة ولا يمكن تصورها،
وسيلزمنا تجارب أكثر تطورًا من تلك التي توصّل إليها علماء الأعصاب حتى الآن لمعرفة كيفيّة قيام الدماغ بهذه العمليّة. إنّ الكثير من الأبحاث حول وظيفة الدماغ تتمّ على أدمغة الحيوانات، بحيث يُقدُّم للحيوان خيارًا واحدًا من خيارين بناءً على الظروف الخارجية المختلفة، إلّا أنّ هذا النّوع من المهام أبسط بكثير من الوظائف التي اختارها التطوّر للدماغ للقيام بها.
يقول بيتكو وأنجيلاكي: "إن الفائدة الحقيقية للاستنتاجات المعقدة مثل قياس مقدار عدم اليقين قد لا تكون واضحة ما لم يكن لهذا اليقين بنية مركّبة". يضيف كّلًا من بيتكو وأنجيلاكي: "إنّ المهام البسيطة للغاية" هي "غير مناسبة لعرض الحسابات الاستدلالية التي تجل من الدّماغ مميّزًا".
يتطلب فهم الدّماغ على ما يبدو تجارب أفضل باستخدام أدوات مفهومة بشكل أكبر من التي نمتلكها الآن، بحيث تكون مركّبة بما فيه الكفاية لتكون جديرة بفحص قدرات الدماغ.
المصدر