إن فهم كيفية تطور الحواس الخمس يمكن أن يساعد في معرفة كيفية قيام البيئة بإعادة تشكيل حواس الرؤية والشمّ والتذوّق عند الإنسان وفقا لثلاثة باحثين في الاجتماع السنوي الذي عقدته الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم AAAS في عام 2017 في بوسطن. ترى "كارا سي. هوفر" وهي أستاذة مشاركة في الأنثروبولوجيا في جامعة ألاسكا في فيربانكس أنّنا نواجه حالياً "حالة عدم تطابق" بين حالات تطوّر حواسنا وبين بيئتنا المحيطة. تقول "أماندا ميلين" وهي أستاذة مساعدة في الأنثروبولوجيا وعلم الآثار و علم الوراثة الطبية في جامعة كالجاري أنّ حدّة البصر لدى أجدادنا قد تطوّرت سابقاً في أحضان الطبيعة.
يقضي البشر الآن قدراً كبيراً من الوقت في الداخل وهذا الأمر يعيد تشكيل حاسّة البصر عند الإنسان. تقول ميلين: "هناك أدلة متزايدة على أن البيئات الضوئيّة البشرية تؤثّر على حدّة النظر لدينا". تضيف ميلين بأنّ حالات قُصر النّظر قد تزايدت في السنوات الأخيرة. تُشير الأدلّة أنّه وبالإضافة إلى العامل الوراثي المسبب لقصر النظر فإنّ الغرف المظلمة والإضاءة الصناعيّة و "مهام العمل القريبة" كالتحديق في شاشة الحاسوب أو المجهر تسهم في ذلك.
تقول ميلين بأنّه يمكن أن يصحح البشر قصر النظر باستخدام النظارات والعدسات اللاصقة أو الجراحة، إلّا أنّ قصر النظر قد يتسبب في إصابة الأفراد بأمراض أخرى مثل المياه الزرقاء في العين glaucoma أو انفصال الشبكيّة retinal detachment. تضيف ميلين أنّ الدراسات تُظهر أنّ قضاء 40 دقيقة في الخارج يوميّاً يقلل من فرص الإصابة بقصر النظر بين %( 25-50) . تقول ميلين بأنّ التغيرات البيئية التي يسببها النشاط البشري تؤثر على الرئيسيّات غير البشريّة non-human primates . تعتمد الحيوانات الليلية nocturnal أيضاً على بصرها بصورة كبيرة، فالبصر يقود كل جانب من جوانب حياتها بما في ذلك اصطياد الفرائس والتواصل مع الحيوانات الأخرى. تصبح السماء حالكة بشكل مبالغ فيه في المناطق التي لا يوجد فيها تلوث ضوئي بسبب الملوثات وغازات الدفيئة greenhouse gases في الغلاف الجوي.
تقول ميلين بأنّ العلماء لا يعرفون الكيفيّة التي تتعامل فيها الرئيسيات غير البشرية مع "الإعتام العالمي" Kglobal darkening وهو التناقص التدريجي في الأشعة الشمسية الواصلة إلى سطح الأرض. ترى هوفر أيضاً أنّ الضوء الطبيعي والذي يمتلك القدرة على تقليل فرص الإصابة بقصر النظر أصبح أكثر عرضة للإصابة بالتلوّث، كما يمكن أن يتلاعب الهواء غير النقي بحاسّة الشمّ لدينا.
تكيفت قدرة البشر على الشم مع مرور الوقت للمساعدة على البقاء على قيد الحياة والتكاثر عن طريق مساعدة البشر في تحديد الأطعمة المغذية واختيار الشركاء وتجنب الطعام الفاسد وغيره من المخاطر. تضيف هوفر: "لقد تم إجراء الكثير من الأبحاث حول"رائحتنا"، وخاصّة حول كيفية استمرار بيئتنا في تغيير أو الوقوف أمام حاسّة الشمّ الخاصّة بنا.
توضّح هوفر أنّ الناس في البيئات الملوثة يعانون من تناقص في حاسّة الشمّ، وهو الأمر الذي سيتمرّ بالازدياد طالما يتّجه العالم نحو حياة المدينة. أظهرت الدراسات أنّ القدرة على كشف الروائح يمكن أن تعدل الصحة العقلية والاجتماعية والجسدية. يُعتبر الأشخاص الذين يعيشون بالقرب من المصانع أو تجمّعات التعدين أكثر عرضة للإصابة بفقدان حدّة حاسّة الشمّ وجميع المشاكل المصاحبة.
تقول هوفر بأنّنا نعيش في عصر "عدم المساواة الحسية". توضّح هوفر ذلك بقولها: "نحن لن نغادر المباني ولن نتوقّف عن استخدام أجهزة الحاسوب، في الحقيقة نحن لن نتخلّى عن ذلك كلّه، لذلك نحن بحاجة إلى خلق بيئات تجعلنا نتعرّض للهواء الطلق بشكل أكبر، وأن نختار مكاناً غير ملوّث كي نفعل ذلك". بحث "بول بريسلين" وهو أستاذ العلوم الغذائية في جامعة روتجرز في حاسّة التذوّق الخاصّة بنا لفهم سبب توجّهنا إلى بعض النكهات، وكيف تُؤثّر بعض هذه التفضيلات سلباً أو إيجاباً على صحّتنا.
يقول بريسلن بأنّ كلّاً من البشر والقرود يحبّون تناول السكّر، في حين لا تفضّله الكثير من الأنواع الأخرى. يضيف بريسلين بأنّ القرود والتي تُعتبر ذات تصنيف يحصل على الطاقة الكيميائية والمواد المغذية من المواد الناشئة من الأصل النباتي والحيواني تحبّ الفاكهة وتحصل على حوالي %80 من السعرات الحرارية اللازمة لها من خلالها. نحن ننجذب أيضاً إلى النكهات الحمضية، وهي النكهة الأخرى الموجودة في الفاكهة. فقد البشر والرئيسيات الأخرى الجين الذي يحتوي على إنزيم يسمح لنا بإنتاج فيتامين C الخاص بنا خلافاً لبقيّة الحيوانات. قد يعود السبب في ذلك لكوننا اعتدنا تناول ما يكفي من الفاكهة الغنية بفيتامين C قديماً.
تقصد القردة الأخرى أحد الأشجار، وتقوم بالتهام الفاكهة للحصول على العناصر الغذائية والسعرات الحرارية حتّى ينجزوا على كلّ الفاكهة الموجودة تلك هذه الشجرة. يقول بريسلين بأنّنا نفعل ذلك أيضاً، وإن كان الأمر مجازيّاً. يكمل بريسلين: "لقد صعدنا إلى هذه الشجرة التي خلقها مجتمعنا وبدأنا بالتهام تلك الفاكهة، ولكنّ الفرق يكمن بأنّ هذه الفاكهة لم تنفذ، ونحن لن نترك تلك الشجرة أبداً". يضيف بريسلين: "علينا أن نأخذ في عين الاعتبار أننا بحاجة إلى إجبار أنفسنا على النزول عن تلك الشجرة ... بشكل دائم". يقول بريسلين بأنّ هناك نوع آخر من الأطعمة التي نفضّلها والتي من الممكن أن تساعد في الحدّ من المشاكل الصحيّة وإنقاذ الأرواح. ينجذب البشر إلى الأغذية والمشروبات المتخمّرة كالنبيذ والبيرة والخبز واللحوم المتخمرة مثل الببروني والألبان المتخمرة مثل الجبن واللبن.
يقول بريسلين بأنّه يمكن للأطعمة المتخمّرة أن تعزز ميكروبيوم معوي صحي عن طريق توصيل البروبيوتيك (وهي كائنات حية دقيقة تعطي عند تناولها فائدة صحية للمضيف) وتمنع أمراض الإسهال وهو وأكثر الأمراض شيوعاً بين البشر وثاني أكبر مسبب وفاة للأطفال. يختتم بريسلين حديثه بقوله: "أعتقد أنه إذا قمنا بتناول المزيد من الأطعمة المتخمرّة فإنّ ذلك سيؤثر إيجابيّاً على المساعدة في منع ومعالجة الأمراض".
المصدر